في المنطقة التي تمتد على حوض نهر النيل من شمال السودان حتى جنوب مصر عاش الإنسان النوبي الذي يرجع تاريخه إلى ما قبل التاريخ، واستمر وجوده في تلك المنطقة إلى الآن، إلا أن معالم حضارته قد اندثر منها الكثير، فطبيعة الأرض الرملية وحركة الرياح قد ساهمت في ذلك، وكأنها تريد أن تخبئ كنوزه التي تركها في المنطقة، ولكنها مع ذلك لم تسلم من أيدي اللصوص.
قد لا يسطر التاريخ كل حياة الإنسان النوبي، ولكن ما خلّفه من كتابات ومنحوتات تشير إلى مدى التطور والتمدن الذي وصل إليه إضافة إلى ثرائه الفاحش الذي يظهر جلياً على الحلي الذهبية التي كان يصنعها، بل وحتى تسمية نوبة في اللغة المصرية القديمة تعني أرض الذهب، ولا عجب في ذلك، فهي حقاً هكذا!
وبالرغم من أن المنطقة برمتها لم تنل اهتماما كبيراً من قبل علماء الآثار كالتي في مصر حتى عهد قريب، إلا أنه عندما زارها عالم المعادن الفرنسي فريدريك كلود الذي وصل منطقة مروي، عاد الي أوربا ونشر ملفاً يصف فيه آثار مروي، ويعتقد ان هذا الملف كان السبب المباشر لحضور الكثير من صائدي الجوائز واللصوص الباحثين عن الذهب كأمثال الإيطالي جوزيبي فريليني Giuseppe Ferlini، الذي سرق اثاراً متنوعة وخصوصاً المجوهرات والحلي الذهبية الملكية بعد أن قام بإزالة قمة أحد الاهرامات وجعل الكثيرين يسيرون على خطاه. وتعرض اليوم هذه المسروقات في متحف برلين.
تعرف ممالك النوبة بالممالك الكوشية، وتنسب إلى كوش بن حام بن نوح عليه السلام، وقد نشأت ثلاث ممالك كوشية في المنطقة، الأولى كانت عاصمتها كرمة (2400-1500 ق.م.)، وتلك التي تمركزت حول نبتة (1000-300 ق.م.)، وآخرها مملكة مروي (300 ق.م – 300 م)، وهي تبعد حوالي 200 كيلو متر من العاصمة السودانية الخرطوم، ولازالت تحتفظ بهذا الاسم إلى الآن.
وتم تعريف مملكة كوش بواسطة اليونسكو على أنها: كانت قوة عظمى بين القرنين الثامن والرابع قبل الميلاد، امتدت إمبراطورتيها الشاسعة من سواحل البحر الأبيض المتوسط الي أعماق أفريقيا، جاعلة من مناطق نفوذها مساحة تبادل للفنون والهندسة واللغات والأديان، وحكمت مصر لقرن ونيف وتركت أثاراً هائلة من الأهرامات والمعابد والمنشآت الكبرى التي تم ربطها بشبكات المياه.
أول ملوك النوبة كان “أرا” أو ما يعرف بالأرا النوبي، وهو أقدم ملك نوبي عرفه علماء الآثار، كما عرف بموحد النوبة العليا والسفلى كما يشار إليها، فقد امتد نفوذه في المنطقة وكانت الدولة في عهده قوية، ويظهر ذلك في اتساعها، فهو أحد الفراعنة السود الذين حكموا مصر، وهو مؤسس الأسرة الخامسة والعشرين التي حكمت مصر والسودان في آن واحد، ومن أشهر ملوكهم “كاشتا” “بعنخي” و”طهارقة” الذي في الصورة السابقة.
وقبل فترة اكتشف الباحث السويسري البروفيسور “شارل بوني” الذي قضى أكثر من ثلاثة وأربعين عاماً في المنطقة حتى كاد أن يصبح من أهلها، عاكفاً على آثار النوبة التي لا زال شغوفاً بها بشدة أكثر من أحفاد النوبة أنفسهم، وتنسب إليه العديد من الاكتشافات، وقد عثر على تماثيل محطمة لملوك من الأسرة الفرعونية الخامسة والعشرين بالصدفة مدفونة في بئر على عمق مترين، وقد تم ترميمها من قبل الخبير الألماني ماركوس بلود. وقد نشر هذا الاكتشاف في أحد أعداد مجلة “ناشيونال جيوغرافيك”.
ويكشف شارل بوني عن أسرار تحطيم تماثيل هؤلاء الملوك السبعة الذين منهم من حكم مصر والسودان هو أن “بسماتيك الثاني” أحد ملوك مصر من الأسرة السادسة والعشرين قام بغزو بلاد النوبة بمعونة من الإغريق من خلال حملة أو حملتين عسكريتين، قام فيها بمحو آثار الكوشيين من المنطقة ودمر مدينتهم “كرمة”، ومن ضمن ذلك كان تحطيم تماثيل الفراعنة السود الذين سيطروا على المنطقة لفترة، ويرى شارل بوني أن ” أن الذي تلقى أمر تحطيم التماثيل قد يكون نحاتا محترفاً صعب عليه تحطيم تحف من هذا النوع”، فقد تم تحطيمها بعناية ولم يكن تكسيراً عشوائياً.
عرف النوبيون صناعة الفخار وتشكيل الذهب وتربية الماشية، كما عرفوا نظام الحكم ووظائف الدولة وتنظيمها، فقد كان لهم دواوين حكم للقاء الشعب. وتطوروا في عمرانهم الذي لا زالت أجزاء كثيرة منه باقية عليها كتاباتهم وتصاويرهم التي تحكي عن ملوكهم وحضارتهم وطقوس العبادة التي كانو يمارسونها.
ورغم تأثر عبادتهم بالفراعنة إلا أنه كانت لهم عبادة محلية خاصة بهم، وقد شيدوا معابدهم الخاصة والتي اتخذت شكلاً دائرياً وهو ما لا يوجد مثيل له في الحضارة الفرعونية المصرية كما يقول شارل بوني.
بنى النوبة أهرامهم التي كانت تختلف عن تلك الفرعونية في حجمها وانحدارها، فالأهرامات المصرية تحتوي على ممرات بداخلها حتى لا يتم العثور على غرفة الملك بسهولة، ولكن هذه النوبية واضحة في بنيتها، وهو ما عرض كثير من الكنوز النوبية للسرقة، ويوجد في منطقة البجراوية وبقية المناطق النوبية حوالي 255 هرم تم بناؤه كمدافن لملوكهم وملكاتهم أو ربما شخصيات كانت بارزة.
عرف النوبيون بأنهم من أكثر الشعوب تديناً، فقد كانوا يؤمنون بالحياة الآخرة، ولهم طقوس جنائزية خاصة كما تأثرت بتلك الفرعونية، وقد اتخذوا الأهرام كمدافن لملوكهم، ومعهم عدتهم اللازمة للحياة الآخرة بما في ذلك كنوز ثمينة، إضافة لكتاباتهم التي كانت تنقش على الجدران، كما عرف النوبيون عبادة “آمون” والذي كان معناه عندهم الخفي، كما تبنى النوبة الديانة المسيحية، كما دخل الإسلام لاحقاً إلى المنطقة وانتهت ممالكهم.
بعد أن كان النوبة يعتمدون بصورة جزئية على الكتابة الفرعونية نهجوا طريقتهم الخاصة في الكتابة والتي تعرف باللغة المَرَوِيّة، وهي طريقة كتابة مختلفة عن تلك الفرعونية لم يتم فك طلاسمها بعد، وتقول رئيسة البعثة الفرنسية للآثار السودانية في الخرطوم والخبيرة باللغة المروية القديمة “كلود ريلي” إنهم لا يعرفون سوى نحو 50 كلمة من اللغة المروية، ويتطلب الأمر معرفة ألف كلمة أخرى حتى يتمكنوا من فهم اللغة!
والآن توجد أكثر من 40 بعثة تنقيب في السودان، بدأت تنظر للحضارة النوبية في كرمة والحضارة المروية على أنها حضارة منفصلة عن الحضارة المصرية، ولكل منها خصائصها رغم تأثر كل منها بالأخرى، ويستشهد على هذا الوعي بالتاريخ توجه أغلب المتاحف التي كانت تعرض الآثار السودانية كجانب من الحضارة الفرعونية، إلى عمل صالات عرض مخصصة للآثار النوبية السودانية. كما أسست فرق بحث خاصة بالحضارة النوبية، وقد نرى المزيد من الاكتشافات مستقبلاً فلازال العلماء يجهلون الكثير عن تلك الحضارة التي كانت منسية لزمن طويل.
0 comments:
Post a Comment